كان موضوع المرأة في دنيا الإسلام، أحد المحاور الأساسية التي وجه النقد من خلالها إلى الإسلام، خصوصاً لدى الباحثين الغربيين، وبعض المستشرقين، وكذلك بعض الكتّاب في بلادنا، المتأثرين بثقافة الاستشراق، أو المنتقدين لأوضاعنا الاجتماعية القائمة.
أوّلاً ـ أوضاع المرأة في العالم الإسلامي:
إنّ المرأة في كثير من الدول الإسلامية، تعيش أوضاعاً غير مرضية، وأحياناً مزرية، خصوصاً على مستوى التعامل الاجتماعي والحقوق السياسية والأوضاع التعليمية، ومعاناتها من النظرة الدونية التي تلاحقها في البيت والمجتمع.
إنّ أوضاع المرأة هي جزء من أوضاع المجتمع كلّه، وما تعانيه هو نتيجة للتخلف والإعاقة التي تعاني منها بلادنا، بسبب بعدها عن الإسلام وتأخرها عن ركب الحضارة، ولذا يرتبط إصلاح أوضاع المرأة بإصلاح الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية في المجتمع، فالاستبداد السياسي مثلاً تدفع ثمنه المرأة في البيت عندما يرجع الرجل المقهور ليعوض ما فقده من حرّية في الشارع باستبداده داخل الأسرة، وبذا تكون المرأة مظلومة ومقهورة مرتين: مرة من مجتمعها ومرة من زوجها الذي يفرّغ همه وغضبه فيها.
ثانياً ـ محاولة نسف التراث:
والأُمّية المتفشية في العالم الثالث لها تأثيرها المباشر على أوضاع المرأة، والتي غالباً ما ترتفع نسبة الأُمّية عندها عن الرجال، فهي تجعلها قليلة الثقافة، قليلة التعليم، وبالتالي يقصر دورها الاجتماعي على مسائل البيت ويعيق حركتها الثقافية والسياسية، ويضعف وضعها الاقتصادي لتكون دوماً متكلة على الغير ومحتاجة إليه.
وافتقاد التأمين الاجتماعي في أكثر الدول، يجعل المرأة أيضاً تفتقد الأمن والاستقرار، لأنّها معرضة للحاجة والفاقة عند أية هزة عائلية تعصف بها، إذا فقدت لأي سبب من الأسباب معيلها، وهي مضطرة للجوء إلى باب من الأبواب التي تفتح بوجهها، لتعيش في ظل زوج جديد أحبّته أم كرهته، إن لم تسقط بها الريح وسط الطريق.
وهكذا تنعكس أوضاع المجتمع بصورة وأخرى لتلقي بظلالها على حياة المرأة وتؤثر في حاضرها ومستقبلها.
إنّ بعض البحوث المنشرة بهذا الصدد انطلقت هي الأخرى متأثرة بالنظرة الدونية الذاتية الحاكمة على المجتمعات المقهورة والمستضعفة، فراحت تنتقد وتهدم كلّ شيء من تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، فلم تستثنِ نقاط القوّة وبعض الأوضاع المفيدة للمرأة، كما أنّها تعاملت مع كلّ (غربي وجديد)، لتأخذ منه كلّ ما يعطي، مع أنّ الغرب نفسه أعاد النظر في الكثير من تجاربه الحديثة واكتشف الكثير من نقاط الضعف فيها، ولا زلنا في كلّ يوم نطالع تقارير وأبحاثاً جديدة تنتقد الأوضاع الاجتماعية القائمة في الغرب، وتنذر بالخطر المحدق به.
ومما يؤسف له، أنّ بعض العاملات في مجال تحرير المرأة في بلادنا، من المتأثرات بالموجة الشيوعية التي اجتاحت العالم الثالث أواسط القرن الماضي، اتجهنّ بكلّ ما أوتين من قوّة إلى تحطيم التراث و (تحرير المرأة) من كلّ التزام عائلي واجتماعي، والعمل لتحويل المرأة إلى عاملة ومناضلة على النمط الاشتراكي الفاشل، والذي سعى لإلغاء الأسرة وإباحة العلاقات الجنسية، ظنّاً منه أنّ ذلك يؤدي إلى إلغاء الطبقية في المجتمع.
ثالثاً ـ الاعتماد على النصوص الموضوعة:
إنّ كثيراً من الباحثين اعتمد في نقده على نصوص مأثورة، ربما يستفاد منها نقد شخصية المرأة، أو الحط من قيمتها وتحديد دورها، أو التأكيد على الدور الذكوري في المجتمع.
إنّنا نريد هنا أن نميز بين الإسلام والموروث الديني الذي وصلنا بعد أربعة عشر قرناً من بزوغ دعوه، ولا شك أنّ الفكر الإسلامي تعرّض خلال هذه الفترة الطويلة لظروف تاريخية مختلفة وتأثيرات ثقافية متنوّعة، منها عوامل تآكل وتحريف داخلية، ومنها هجمات وتأثيرات حضارية خارجية، ومن أهمها تأثير الإسرائيليات وحركة الوضع والغلو...
كما إنّ الفهم البشري للنص الديني هو الآخر تأثر بالفهم والظرف الاجتماعي لقارئ النص، وألقى بظلاله على تفسير وتأويل النصوص، وكان للمنحى الذكوري أيضاً آثاره في بيان وشرح وفقه كثير من المسائل.
لذا يمكن أن يكون النقد متوجهاً للفهم الديني، أمّا إذا أريد معرفة وجهة النظر الإسلامية، فإنّ ذلك يتطلّب تمحيص وتدقيق النصوص، وتمييز الصحيح منها عن السقيم والموضوع والضعيف، خصوصاً في مجال الحديث النبويّ والروايات التفسيرية.
نعم، يمكن الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم، مع محاولة فهم النص القرآني طبق قواعد اللغة العربية والقواعد التفسيرية الصحيحة، وإرجاع الروايات إلى القرآن الكريم ومحاكمتها طبقاً لآياته المحكمة التي تمثل روح الإسلام ومبادئه الأساسية.
ونظنّ أنّ جزءاً من الأحاديث التي تنسب الشؤم إلى المرأة، أو تعتبرها مركز الشرّ متأثر بالنظرة (الإسرائيلية) التي تعتبر المرأة صاحبة الخطيئة التي أخرجت آدم من جنته.. كما إنّ بعض الروايات تحمل آثار النظرة (الجاهلية) إلى المرأة، وبعضها فيها ظلال النظرة الذكورية وغلبة الرجولية في المجتمع العربي.
وطبيعي أنّ بعض ذي وذاك شكّل خلفية وأسسَ قاعدة لبعض الآراء والأحكام الخاصّة بالمرأة، وكان من الضروري بمكان التمييز والتحقيق فيما وصلنا من تراث، حتى لا نلحق بالإسلام آراءً غريبة عنه بحرص (التدين) والدفاع عنه، ولا نحمله ما يتعارض مع روحه ومنهجه العام مع زاوية نقده والانتقاص منه.
نماذج من (الموضوعات) في المرأة:
1 ـ (شاورهن وخالفوهن):
قال الألباني: (لا أصل له مرفوعاً، كما أفاده السخاوي، ثم المناوي (4/ 263)، ولعلّ أصل هذه الجملة ما رواه العسكري في الأمثال عن عمر، قال: (خالفوا النساء، فإنّ في خلافهن البركة)، وإن كنت لا أعرف صحّته، فإنّ السيوطي لم يسق إسناده في اللآلي (2/ 174) لننظر فيه...
ثم إن معنى الحديث ليس صحيحاً على إطلاقه، لثبوت عدم مخالفته (ص) لزوجته أُم سلمة حين أشارت عليه بأن ينحر أمام أصحابه في صلح الحديبية حتى يتابعوه في ذلك).
2 ـ (طاعة المرأة ندامة):
قال الألباني: (موضوع. رواه ابن عدي (ق 308/ 1)).
3 ـ (هلكت الرجال حين أطاعت النساء):
قال أيضاً: (ضعيف. أخرجه ابن عدي (38/ 1)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 34)، والحاكم (4/ 291)، وأحمد (5/ 45)، من طريق بكرة، بكار بن عبدالعزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن أبي بكرة... وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي.
قلت: وهذا ذهول منه عما ذكره في ترجمة بكار هذا من الميزان: (قال ابن معين: ليس بشيء وقال ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم)).
4 ـ (لولا النساء لعبد الله حقّاً حقّاً):
قال عنه: (موضوع).
5 ـ وقد نجد أحاديث أخرى موضوعة في الاتجاه المعاكس، ولكنّه أيضاً يحمل الضعف والسخف معه، ومنها:
(عليكم بدين العجائز).
قال الألباني عنه: (لا أصل له، كذا قال في (المقاصد) وذكره الصغاني (ص 7) في (الأحاديث الموضوعة)).
والعجيب أنّ جملة (عليكم بدين العجائز) مما تناقلوه بكثرة، حتى عده البعض قاعدة في طريقة تناول العقائد وسد باب العلم فيها ورد كلّ محاولة عقلانية للبحث فيها.
6 ـ (المرأة شرّ كلّها وشرّ ما فيها أنّها لابدّ منها):
هذه الجملة وردت في الجمل القصار المروية عن عليّ (ع) من دون سند، وتداولها الناس تداول المسلّمات من دون تمحيص وتحقيق.
وقد وجدت لهذه الجملة أصولاً في الأمثال المتداولة قبل الإسلام، مما يؤكد وضع هذه الرواية وعدم صحّتها، علماً بأنّ روايتها أو ورودها في كتاب لا يعني بأي حال صحّتها، فقد جاء في الحكم والأمثال:
(الزواج شرّ، ولكنّه شر ضروري).
وهو ينسب إلى ميناندر، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد.
رابعاً ـ مقارنات مغلوطة:
إنّ بعض الدراسات متأثرة بالجوّ الإعلامي الغربي السائد من جهة، والواقع المتخلف للمرأة في الكثير من بلداننا من جهة أخرى، فهي تقارن بين أوضاع مختلفة غير قابلة للمقارنة، وفي مجالات لم يتفق بعد على معياريتها، وتخرج بنتائج مسبقة على البحث.
فقد عزت نادية يوسف حجاج أسباب انخفاض معدلات تعلّم وعمل النساء في عدد من البلدان العربية المسلمة بالمقارنة إلى الارتفاع النسبي لمعدلات تعلّم وعمل النساء في عدد من بلدان أميركا اللاتينية إلى الموقف الأخلاقي والقيمي المتشدد للإسلام تجاه المرأة، ففي دراسة لها، أسندت الموقف الإسلامي برمته إلى فكرة شرف العائلة وعذرية الأنثى، فبسبب الحرص على المحافظة على شرف العائلة وسلامة سلوك المرأة من خلال منع اختلاطها بالغرباء من الرجال خارج حدود العائلة، انخفضت معدلات تعلّم وعمل النساء في المجتمعات العربية الإسلامية.
ويلاحظ على تلك الدراسة، والتي هي نموذج للدراسات (المتغربة) عن الإسلام ما يلي:
1 ـ ما هو مدى ارتباط موقف المرأة العربية المسلمة المعاصرة، بالإسلام الذي جاء قبل أربعة عشر قرناً، وما مقدار تأثر هذا الموقف بالعقل العربي قبل الإسلام؟ فالمجتمع العربي المعاصر يبتعد عن الإسلام في الكثير من سلوكه وتصرّفاته، ولا يمكن تحميل الإسلام نتائج لم يقدم مقدماتها.
2 ـ لا يستند الموقف الإسلامي إلى فكرة (شرف العائلة) و(عذرية الأنثى)، بل تستند العقلية العربية القبلية الشرقية إلى هذه الفكرة، نعم يقوم الإسلام على أساس طهارة الإنسان من الدنس وسلامة علاقاته عموماً والجنسية منه على وجه، وقيامها على أُسس شرعية تضمن سلامة الفرد والمجتمع.. أمّا مسألة الثأر والشرف... فهي تشددات قبلية لم تنطلق من إحساس أو فكر ديني، ودليلنا على ذلك أنّ هؤلاء المتشددين في هذه المسائل متساهلون في الالتزام الديني، وقد يتعدون حدود الشرع، على فرض كونهم مسلمين، في مواقفهم وردود أفعالهم تجاه هذه المسائل.
كما إنّ كثيراً من المجتمعات غير الإسلامية، كالصين مثلاً، تبالغ وتتشدد في مثل هذه الأمور أيضاً. فهل كان ذلك مانعاً من تعلّم المرأة وتقدّمها في مجالات العمل؟
3 ـ سبق الإسلام غيره، بما في ذلك النهضة العلمية المعاصرة، في الدعوة إلى تعليم المرأة، كما إنّه أكد من قبل على استقلالية المرأة الاقتصادية في وقت لم تعطِ ذلك في أوربا إلّا في العصور المتأخرة.
4 ـ قد تكون نسبة التعليم مؤشراً لتقدّم أوضاع المرأة أو تخلفها، إلّا أنّ نسبة العمل، خصوصاً بالمعنى الوظيفي، ليس مؤشراً دقيقاً على ذلك، بل إنّ بعض الباحثين الغربيين، كما مر، انتقدوا ظاهرة التأكيد على عمل المرأة وبالعموم جرها إلى المعامل والدوائر بما يؤثر على شخصيتها وأنوثتها.
ونجد على أي حال الكثير من الدراسات التي حاولت تحليل المجتمعات المسلمة بمعايير حديثة مختلفة، وإرجاع الأوضاع القائمة إلى الدين، دون التمييز بين الفكر الاجتماعي القبلي والالتزام الديني المفقود في كثير من هذه المجتمعات.
خامساً ـ النظرة التجزيئية:
وبعض الدراسات النقدية تعاملت مع أحكام شرعية جزئية دون النظر إلى كلّ التشريع الإسلامي المتعلق بالمرأة، فإنّ للسلام نظرة متكاملة إلى القضايا ولا يمكن محاكمته بنظرة تجزيئية انتقائية تأخذ حكماً أو تشريعاً معيناً مع إغفال الأحكام الموازية والمتكاملة مع هذا التشريع.
وهكذا توقف أكثر الباحثين عند موضوع الإرث والشهادة والقوامة. مع أنّ لهذه المسائل موقعها الجزئي ضمن نظام اقتصادي واجتماعي وحقوقي متكامل، كما إنّ هذه المسائل ذات طبيعة قانونية تنفيذية تنبعث من نظرة سلبية إلى المرأة ودورها.
فإذا ما درسنا هذه المسائل ضمن نظرة الإسلام الإنسانية المكرّمة للرجل والمرأة على السواء، وتابعنا مختلف أبعاد هذه الرؤية النافية للتمييز في كلّ المجالات، فإنّنا سنجد هذه التشريعات ليس لها قيمة معنوية، وسنضعها في إطارها القانوني المحدود.
كما إنّنا بدراسة بقية التشريعات العرضية لكلّ مسألة، نعرف أيضاً أنّ هذا التشريع لم يأتِ للنيل من حقّ المرأة أو تحديد شخصيتها، وإنّما جاء متكاملاً مع عدة تشريعات أخرى لصالح المرأة، واقترب فيها من الواقع لتأتي الأحكام منسجمة معه.
ففي حالة الإرث مثلاً، يرث الذكر ضعف نصيب البنت، وهذا التفاوت ليس ناشئاً من نقص في القيمة الإنسانية للمرأة، وكون الرجل أكمل منها، بل هو ناشئ من أنّ المرأة بحسب ما قرره الإسلام في الشريعة تتمتع بامتيازات اقتصادية على مستوى الأسرة لا يتمتع بها الرجل، ويتحمّل الرجل أعباء اقتصادية لا تتحمّلها المرأة.
فالرجل يتحمّل مهر الزوجة، ونفقات الزواج وأثاث البيت، كما أنّه ينفق على الزوجة والأولاد، وتقع عليه الأولوية الأولى في النفقة على أبويه إذا كانا فقيرين، وهذه كلّها نفقات واجبة عليه بحسب أحكام الشريعة، ولا يجب على المرأة فيها شيء.
فحصة الرجل في الميراث معرضة للإنفاق غالباً ـ ومنها إنفاقه على المرأة بنتاً أو زوجة أو أُمّاً ـ بينما حصة المرأة من الميراث هي ـ غالباً ـ للإدخار والإحراز.
وكما يقول البعض بأنّ المرأة في الإسلام ترث الثلث ولكنّها تحرز الثلثين، لأنّ الثلثين اللذين يرثهما الذكر يعود نصفها إليها، بالإنفاق عليها، سواء كانت أُمّاً أو بنتاً أو زوجة.
ومع هذه النظرة التكاملية، يتبيّن لنا أنّ المرأة محظوظة بهذا التشريع وليست محرومة أو مظلومة، وإذا ما ساوَت بعض الأنظمة في الإرث بين الرجل والمرأة فإنّها من جهة أخرى سلبت المرأة الحماية الاقتصادية التي يوفِّرها لها الإسلام، وهذه الحماية يتوفّر في ظلها الكثير من المعاني الأخرى، كإحساسها بالأمن والاطمئنان والتكامل الاجتماعي والتواصل الروحي والعاطفي مع عائلتها وذويها.
سادساً ـ دراسات ناقصة من تجارب فاشلة:
وهناك مسألة أساسية أخرى، وهي أنّ كثيراً من الباحثين الذين تحدّثوا عن تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها في بلادنا، تأثروا بالموجة العالمية للتحرّر من كلّ شيء، وسارعوا إلى تأييد بعض المقولات وتفنيد أخرى قبل أن تؤتي هذه المقولات أُكلها، وقبل أن تستكمل التجربة الجديدة أبعادها، ليرى مدى نجاحها من فشلها وسقمها من صحّتها وسلامتها.
ونجد هذا بصورة واضحة عند الرواد الأوائل لحركة (التنوير)، فهذا الطهطاوي يقرر ضرورة الاختلاط بين الفتى والفتاة ـ مجاراة للغرب ـ بينما نجد الباحثين الغربيين المختصين في علم النفس وقضايا الجنس يؤكدون على ضرورة الفصل بين البنات والبنين، ومنذ مراحل مبكرة، وأنّ الميل للتواجد واللعب مع أطفال من نفس الجنس أمر فطري، يظهر عند الأطفال منذ عمر السنتين، وأنّ الاختلاط بين الجنسين يخالف ميل الأطفال وفطرتهم.
ومثال آخر هو موقف قاسم أمين من مسألة تعدّد الزوجات ـ وكذلك الحجاب والطلاق وغيرها ـ فإنّ هذه الظاهرة إنّما أجازها الإسلام لضرورات كثيرة تبرز عند الرجال، كما في حالة عدم إنجاب الزوجة أو مرضها أو فشلها الجنسي أو غير ذلك، وهي ظاهرة كانت موجودة عبر التاريخ، وإجازتها لا تعني تشجيعها، وإنّما إقرارها مع شرائطها، ومنها العدالة بين الأزواج، وهي تتواجد نتيجة للظروف الاجتماعية والنظام الاقتصادي السائد في كلّ بلد، وقد يرجع أحياناً إلى ازدياد نسبة النساء على الرجال، ومع إقرارها إلّا أنّ ظاهرة التعدّد في المجتمعات الإسلامية محدودة، وبأقل الآثار السلبية، خصوصاً مع الالتزام بالقواعد الشرعية.
ففي كثير من الدول الغربية اليوم يسمح قانونياً بوجود عشيقة إضافة إلى الزوجة، ولكن هذه العشيقة تقدّم ما تقدّمه الزوجة ولكن دون أن تأخذ أي حقّ يضمن لها ولأولادها المحتملين الحقوق المفترضة في الزوجية.
وهي تعيش حالة القلق والاضطراب دوماً، لأنّ علاقتها دخيلة وثقيلة، وملاحقة من الزوجة، ولا تعرف مستقبل حياتها لأنّها مستهلكة من قبل (صديقها) من جهة، وغير معلومة الحال أو مستقرة البال لمستقبل أيامها من جهة أخرى، لأنّ علاقتها مهددة بالانفصام في أي لحظة لتختصر حياتها وصداقتها بكلمة اعتذار قصيرة (Sorry) والسلام.
وفي بقية البلدان التي لا تقر هذه العلاقة قانونياً، فإنّها علاقة واقعية منتشرة على أوسع نطاق.
كما إنّ نسبة كبيرة من الأطفال يولدون نتيجة لهذه العلاقة، وهم أيضاً يتعرّضون إلى مشاكل نفسية واجتماعية كبيرة، على صعيد التربية والتبني، لأنّ الرجال يتخلصون غالباً عنهم، والنساء قد ينشغلن بعلاقات جديدة، ولا يعلم مصير الأطفال الذين يأخذون طريقهم إلى دُور الحضانة وبيوت الرعاية.
وهذا ما دعا بعض المجامع القانونية في بعض الدول، كفرنسا وأميركا، إلى التفكير جدياً بتقنين هذه العلاقة وترتيب آثار قانونية ومادّية عليها لضمان حقوق العشيقة (الزوجة الثانية) والأطفال المترتبين على مثل هذه العلاقات.
جدير ذكره أنّ بعض الدول ومنها ألمانيا، عالجت مشاكل ما بعد الحرب وفقدان الذكور فيها بتشجيع الزواج المتعدّد، وفعلاً نجحت في سد الفراغ المذكور بسهولة.
كما إنّنا نجد في بعض الروايات والأعمال الأدبية والفنية الغربية انعكاساً لهذه الظاهرة، أي أنّ تتواجد في حياة إنسان زوجة وعشيقة أخرى، وكثيراً ما تكون مع ارتباطه العاطفي بهما معاً، فتلك زوجته العرفية وأُم أبنائه، والأخرى موضع حبّه وملاذ قلبه... وتعرض هذه الأدبيات المأزق الذي يعيشه الإنسان بين ذي وتلك، والأوضاع الصعبة... وقد تنتهي إلى جريمة أو موت بسبب عدم إمكانية إيجاد حل لجمع الوضعين معاً.
ولذا فإنّ مجرد عروض موجات عالمية لتجارب غير مدروسة وانفعالات إعلامية عارضة، لا يدعو إلى رد ما عندنا من أوضاع أو أحكام لا تختص بزمان أو مكان، وإنّما تقرر حلولاً استثنائية قد يلجأ إليها الإنسان مضطراً.
ولا يعني ذلك بحال التشجيع على تعدّد الزوجات، ولا نجد في النص القرآني تشجيعاً عليه، كما لا يعني ذلك أيضاً إقرار الأوضاع السيئة والظروف غير العادلة في بعض الحالات التعدّدية في بلادنا.
وفي تحليل للعالم النفساني والطبيب الفيلسوف النمساوي كونراد لورنتز رائد علم الإيثولوجيا والحائز على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا (1973م).
قليل من الرجال من ليسوا على استعداد ليجامعوا بدون حبّ، أمّا النساء فعلى النقيض من ذلك. هذا بالضبط ما نلاحظه في الأوز، وما يحدث في بعض الطيور الأخرى التي تأخذ بتعدّد الأزواج، حيث الفصل بالنسبة للذكر أيسر.
وبما أنّ للطفل أباً وأُمّاً، فهو لن يعاني إذا كان لأبيه عدة زوجات من حوله، كما يحدث للعرب، وكما هو موجود في المجتمعات الأخرى التي تمارس تعدّد الزوجات والتي تسير بطريقة مرضية.
وقد أكدت الدراسات هذا المعنى ـ من وجهة نظر بايولوجية واجتماعية ـ ، حيث أفادت بأنّ 84% من 165 مجتمعاً معاصراً تمت دراستها، يسمح فيها للرجل بأن يتخذ أكثر من شريكة جنسية في زمن واحد، بالزواج، أو بصفة أخرى... وأنّ الرجال أكثر بكثير من النساء ميلاً للتنوّع في العلاقات الجنسية، وقد فسّرت هذه الظاهرة على أُسس بايولوجية.
أمّا من ناحية الأنثى، فإنّ تحديد ميلها للتنويع يفسّر على أساس بايولوجي اجتماعي، فهي بحكم طبيعتها البايولوجية وموقعها الاجتماعي لا تستطيع أن تضمن استمرارية وراثتها إلّا عن طريق ذاتها، ومثل هذه الإمكانية تتحدد بفترات الحمل المتباعدة والمحدودة، وهي لذلك يجب أن تحصر علاقتها الجنسية بما لا يخرج عن إطار الزواج.
المصدر: كتاب المرأة.. أزمة الهوية وتحديات المستقبل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق